التلوث الكيميائي .. “غول” يداهم أهالي “قابس” التّونسية (تقرير)

In الأخبار, جهوية On

يعاني أهالي قابس منذ أكثر من 40 عاما من مشاكل التلوث الناتج عن تسرب الغازات السامة للوحدات الكيميائية بالمجمع الكيميائي، إضافة إلى وجود إفرازات لمادة “الفوسفوجبس” التي يتم ضخها مباشرة في البحر المتوسط

قابس (تونس) /هيثم المحضي/ الأناضول
رغم إصابتها بالسرطان، لا مطلب للتونسية، جليلة صرّار، سوى التّسريع بعلاج نجلها علي، المصاب بمرض هشاشة العظام، قبل فوات الأوان، حتى لا يكون مصيره كأخته جيهان، المقعدة بسبب المرض نفسه.
عائلة جليلة، المُقيمة بمدينة “شط السلام” التابعة لمحافظة قابس جنوبي تونس، تتكون من أربعة أشخاص، ثلاثة منهم يعانون من أمراض مزمنة، كان سببها ـكما تقول- إفرازات المُجمّع الكيميائي، الذي لا يبعد عن مقر سكنهم سوى 200 متر.
ويقع المُجمّع الكيميائي في “شط السلام” التّي يقطنها نحو 18 ألف نسمة، وتبعد قرابة 4 كلم عن مدينة قابس مركز المحافظة التي تحمل نفس الاسم، وتم إنشاء المُجمّع عام 1972وبداخله وحدات لتصفية مادة الفوسفات.
وبحسب مراقبين، يعاني أهالي قابس منذ أكثر من 40 عاما من مشاكل التلوث الناتج عن تسرب الغازات السامة للوحدات الكيميائية بالمجمع، إضافة إلى وجود إفرازات لمادة “الفوسفوجبس” التي يتم ضخها مباشرة في البحر المتوسط.
ومادة “الفسفوجبس” هي بقايا الفوسفات الذي يتم جلبه من مدينة قفصة (جنوب) إلى قابس لمعالجته داخل المجمّع الكيميائي.
“جليلة” كانت واحدة ممن حاصرهم تلوث المجمع، وعن معاناتها قالت للأناضول: “ظللت مدة طويلة أتلقى علاج السرطان خارج قابس، لكنني استسلمت في النهاية وقررت العودة إلى بيتي خاصة بعد أن عرفت بمرض ابني علي الذي يعاني من هشاشة العظام”.
وتابعت: “ابنتي جيهان (17 عاما) مصابة أيضا بهشاشة العظام منذ أن كان عمرها 5 سنوات والأمر ذاته تكرّر مع ابني علي (8 سنوات)، .. ومطلبي الوحيد هو معالجة ابني قبل فوات الأوان”.
وبحسب جليلة، فإن المتسبب الأول في مرضها ونجليها هو “التلوث الذي تعاني منه المدينة منذ أكثر من 40 عاما”.
بدوره، كشف الأستاذ في كلية العلوم بقابس، محمد علي الدايمي، للأناضول أنه “حتى اليوم تم ضخ ما يقارب 30 مليون طن من مادة الفوسفوجبس في البحر، فلا يمكن الحديث عن أي حياة بحرية بخليج قابس (على البحر المتوسط)، إلا على بعد 6 كلم من الشاطئ”.
ويتسبب التلوث الذي يفرزه المجمع، بحسب تقارير لمختصين، في أمراض سرطانية وأخرى جلدية وأمراض الجهاز التنفسي، إضافة إلى أمراض العقم والإجهاض المنتشرة بشكل كبير في المناطق المتضررة من هذا المجمع الكيميائي بمحافظة قابس.
وفي هذا الصدد، قال الناشط المدني التونسي البشير الفتوي، للأناضول إنّ “الأمراض التي يسببها التلوث تنتشر بشكل كبير وسط مدينة شط السلام، ومن النادر جدا أن تجد عائلة في هذه المنطقة معافاة من أي مرض سرطاني أو جلدي”.

وأضاف: “أمراض السرطان في منطقتنا أصبحت مثل نزلة البرد، فالمشهد أقرب إلى أن تكون كل الأمراض موجودة أمامك على طاولة ولك أن تختار أحدها”.
ومضى ساخرا: “نحن في قابس تجاوزنا عمرنا الافتراضي وأصبحنا نعيش بالعمر الإضافي، حتى أن مشهد الجنازة في حيِّنا أصبح مألوفا جدا حتى أن الأهالي تأقلموا مع هذا الوضع بشكل كبير”.

في “شط السلام” أيضا، التقت الأناضول السّيدة “الزينة القريوة” (60 سنة) التي تعاني من مرض الربو.
وعن معاناتها والسكان الآخرين قالت: “هذا المجمع أصبح مضرا للجميع .. زوجي مات جراء إصابته بسرطان الرئة بسبب التلوث تاركا لي 3 أبناء معطّلين عن العمل .. ولم يوفروا شغلا حتى لأحدهم في هذا المجمع”.
ولا يختلف الأمر كثيرا لدى عائدة ناصف (32 سنة) التي فقدت زوجها منذ 3 سنوات بسبب مرض السرطان.
وقالت عائدة للأناضول: “3 أشهر فقط كانت كافية ليقضى المرض الخبيث على زوجي الذي ترك لي 4 أبناء أسعى جاهدة لتربيتهم، ولكن الظروف صعبة للغاية فأنا لا اشتغل والحكومة لم تلتفت إلينا ولم تعوض لنا الضرر الذي لحقنا من جراء التلوث الذي نعاني منه”.
وأشارت إلى أن 8 عائلات في الحي الذي تقطنه خسرت عائلها الأول بسبب أمراض مزمنة وأخرى خبيثة كالسرطان.
وتنشط في محافظة قابس العديد من الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني ذات الصبغة البيئية المطالبة بمقاومة التلوث المؤدّي إلى أمراض خبيثة قاتلة.
وفي فبراير/شباط الماضي، شكّل نشطاء مدنيون في قابس حراكا يعرف بـ”سكّر (أغلق) المصب” ويهدف إلى إغلاق مصب الفوسفوجبس (بالبحر المتوسط)، وإنشاء مشاريع لمعالجة هذه المادة بصفة مطابقة للمواصفات الدولية في مستوى السلامة البيئية.
وبحسب العديد من الأهالي، فإن التلوث الذي تسبب به المجمع الكيميائي ساهم في تغيير الخارطة الطبيعية للمحافظة التي كانت تجمع بين البحر والصحراء والجبال والواحة، أما اليوم فغاب هذا المشهد ليعَوّضه مشهد قاتم يلاحظه كل زائر لواحة قابس، فيما لا توجد إحصاءات رسمية حول عدد المصابين بتلك الأمراض بالمحافظة.
فهناك غاب الاخضرار الذّي طالما ميز قابس، كما غاب المصطافون ليصبح البحر “ميّتا” وأكثر سوادا جراء مادة الفوسفوجبس.

وبنظرة عابرة لشاطئ البحر، فإنك ستلاحظ حتما بقايا لحيوانات بحرية من أسماك وسلاحف ميتة تطفو على السطح نتيجة المواد السامة.
وفي أكثر من مرة طالب البحارة في قابس السلطات التونسية بوقف سكب مادة الفوسوفوجبس بالبحر التي أضرت بشكل كبير بالثروة السمكية.
من جهتها، أعلنت الحكومة التونسية في حزيران /يونيو الماضي، التزامها التام بوقف سكب مادة الفسفوجبس في البحر، إضافة إلى العمل على تفكيك الوحدات الملوثة واستبدالها بأخرى تحترم المعايير الدولية في السلامة البيئية، ليتم تحويلها من المكان الحالي إلى مكان آخر يقع الاتفاق عليه لاحقا (لم يحدد بعد).
وفي هذا الصدد، شدّد الأكاديمي “الدايمي”، على ضرورة احترام القوانين الدولية عند تحويل هذه الوحدات الكيميائية عبر مراعاة الظروف البيئية والصحية التي تفرض إنجاز هذه الوحدات على بعد 10 كلم من مقر سكن المواطنين، إضافة إلى وجوب إنشاء مرصد لمراقبة تلوث الهواء وتوفير تقارير شفافة في مستوى عمل هذه الوحدات الكيميائية.
ويعتبر الفوسفات أهم الموارد الطبيعية لتونس، وتراجع إنتاجه في السنوات الأخيرة بنسبة 60٪ إلى 3.2 مليون طن عام 2015.
ويعود تراجع إنتاج الفوسفات إلى إضرابات العمال المتكررة واتهامات الفساد التي تلاحق عملية نقله.‎

المصدر : وكالات

أضف تعليق:

بريدك الإلكتروني لن يتم نشره

قائمة الموبايل