الخزف يُنيرُ درب فاقدي البصر في مدنين

In الأخبار, جهوية On

20 شاب وشابة من فئة فاقدي البصر في مدنين انطلقوا في تعلُّم آليات حرفة الخزف عبر تقنية اللّمس لبعث مشاريع خاصة بهم بدل التعويل على عائلاتهم أو على مساعدة المجتمع. 

قد لا يُدركونها بصريّا، لكن بصائرهُم تعرف جيّدًا جمال أعمالهم التّي حوّلتها أناملهم البسيطة إلى قطع خزفية لا يمكن أن يكون صانعها إلّا شخص احتفظ في داخله بقدر من الفن والحس المرهف.

هم 20 شاب وشابة من فئة فاقدي البصر بولاية مدنين اكتسبوا – وعلى مدى قرابة العامين-مهارات في مجال صناعة  الخزف  داخل  ورشة  في مقر الإتحاد الجهوي للمكفوفين بمدنين.

ومع بداية عام 2021، والى غاية الآن، يتواصل مشروع  “الخزف آلية لدمج ضعاف وفاقدي البصر ” الذي يهدف  إلى تعليم  عدد من فاقدي البصر الٱليات الأساسية لحرفة الخزف، حتى  يكتسبوا مهارات تمكّنهم من  توفير مورد رزق لهم فلا يكونوا عبئًا على عائلاتهم أو على مساعدة المجتمع .

ورشة أقرب إلى  خليّة نحل

داخل  هذه الورشة يعمل هؤلاء  الشباب في شكل خلية، يقوم أحدهم بطرح  الطين قبل العمل عليه،  فيما يمرّر آخر القلْقال (قطعة خشبية) على الطين الذي يتلمسّه قبل أن يحوّله إلى شكل قطع خزفية.

تبدو الفرحة غامرة في عيونهم أثناء عملهم فهو سبيلهم الوحيد لإثبات ذواتهم داخل المجتمع، فالجميع لديه قابليّة  للتعلُم بسرعة ليمرّ إلى مرحلة أخرى وهي إمكانية  فتح مشروع خاص بهم يكفيهم  طلب المعونة من أي جهة.

ويقول ياسين الحجام رئيس المكتب الجهوي للمكفوفين بمدنين  “انطلق التكوين منذ شهر جانفي 2021 ويتواصل إلى غاية الآن، الفكرة  فريدة من نوعها فهي تستهدف فئة لها خصوصيات معينة وحاولنا تطويع هذه الحرفة ليجد  فاقد البصر  فرصة لإثبات وجوده، فهذه الفئة لم تجد أي سوق  تستقطبهم أو أي عمل ٱخر يتماشى مع خصوصيتهم وظروفهم  الخاصة”.

إصرار على التعلّم رغم طول المسافات 

داخل هذه الورشة يُصرّ الشاب مؤمن زرّوق (21 سنة) على تعلّم كل تقنيات هذه الحرفة بعد أن عزم  على بعث ورشته الخاصة في هذا المجال.

يقطن مؤمن في جزيرة جربة البعيدة عن مركز مدينة مدنين  قرابة ال 100 كلم، وبالرغم منتلك المشاق التي يتضاعف وزرها مع فقدان البصر، ظلّ مؤمن -هذا الشاب الطموح -دائم الإصرار على الحضور في كل حلقات التكوين حتى لا يُضيع أي فرصة لتعلُّم درس جديد.

“تعلمت الكثير خلال فترة التكوين، وأوّلها هو تحمّل المسؤولية، وهذه تعتبر أول مرة أخرج  من منزلي إلى مدينة مجاورة”، يقول مؤمن بنبرة صوت فيها الكثير من التحدي.

 تابع الشاب كلامه بشغف كبير: “حرفة الخزف أعجبتني كثيرا ولن أفرّط فيها أبدًا بل وأفكّر في بعث ورشتي الخاصة في مجال صناعة الخزف، فوالدتي ترسم على  قطع الفخّار التي تقوم بشرائها لذلك أفكّر في بعث ورشة خاصة والعمل معها من خلال توفير قطع الفخار لها بدل شرائها من السوق”.

ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للشابة إيمان الدحّاس (28 سنة) فهي  تُصرّ على القدوم بشكل شبه دائم الى هذه الورشة.

وتقول الدحّاس في حديثها معنا “بالرّغم من صعوبات التنقل، حيث أنّني أقطن في الريف، أُصرّ على القدوم إلى هذه الورشة  حتى لا تفوتني أي حصة”.

تابعت إيمان قائلة: “وجدت أن الطين كمادة سهلة للغاية بالمقارنة مع بقية المواد فالطين يُساعدنا في مستوى الملمس ويسهُل التعامل معه”.

مرحلة التكوين تقوم على حاسة اللمس

كغيرها من زملائها وزميلاتها تعلّمت إيمان أهم  التقنيات المستعملة في مهنة الخزف وأهمها  تقنية الطباعة وتقنية الحبال وتقنية  القوالب.

وتتمثل تقنية القوالب في ملئ قوالب الأواني بمادة تسمى بالبَرْبُوطِينْ (ماء طيني سائل) التي يقوم  المتكون بتحضيرها مسبقا  حيث يتلمّسُ المتكون مكان القالب بيده ويسكب مادة ” الباربوطين ” بيده الأخرى داخل القالب ويتابع الامتلاء من خلال حاسة اللمس.

أما تقنية الطباعة التي يميل إليها الكثير من فاقدي البصر الكلي لسهولة التعامل معها فما على المتكون سوى إعداد قطعة الخزف وطرحها ثم وضع قطعة من القماش التي تحتوي على عدة أشكال والضغط عليها لتُطبع على العمل الخزفي.

ولإنجاز الأعمال الخزفية ذات الشكل الدائري يحبذ الكثير من المتكونين داخل الورشة العمل على تقنية الحبال التي تعتمد أساسا على  صنع حبال صغيرة من الخزف ثم وضعها  فوق بعضها لتأخذ شكل القطعة المُراد صنعها .

ويقول لسعد الكرمي مكون الفريق “حاولنا تعليمهم كل هذه التقنيات  التي لا يوجد فيها الكثير من التعقيد مثل بقية التقنيات المعتمدة عند الأصِحّاء كاستعمال عجلة  الفخار ” .

ويُحبذ معظم فاقدي البصرهذه التقنيات فهي الأسهل من حيث الاستعمال، كما تُجنبهم الوقوع في مشاكل في مستوى التعامل مع بقية المعدات التي تستعمل في الخزف والتي تستوجب مجهودا بدنيا ومعرفة أوسع بفضاء العمل.

كما تُمكّن هذه التقنيات من صناعة أواني فخاريّة أو كؤوس  تُستعمل للأكل والشرب بطريقة حرفية وبجودة عالية.

وتلقى مثل هذه الأواني الفخارية الرواج الكبير في الأسواق التونسية بالمقارنة مع بقية الأنواع الأخرى، خاصة وأن للأواني الفخارية مميزات صحية كبيرة في حفظ الماء الأكل.

ولا تخفي هذه المهارات التي اكتسبهاالمتكوّنونداخل  الورشة  الكثير من الصعوبات التي واجهوها خلال فترة التعلم .

وبحسب لسعد الكرمي (مُكوّن الفريق) فإنه وإلى جانب الإعاقة البصرية التي يعانون منها فان لديهم صعوبات كبيرة في التحكّم بالأيادي والأصابع.

ودعا في هذا الإطار أهالي المكفوفين إلى تركهم يتصرّفون مثل غيرهم الأصحّاء، حيث يتسبّب الخوف المتزايد عليهم من قبل ذويهم إلى وجود صعوبات في التحكّم، وفق تعبيره.

وأمام هذه الصعوبات المختلفة يسعى الإتحاد الجهوي للمكفوفين بمدين إلى المتابعة البعديّة لهؤلاء المتكوّنين من خلال توفير جملة من المعدات وتنظيم عدد من المعارض الخاصة بهم .

فرن كهربائي ومعرض لأعمال المتكوّنين

يُوفر الإتحاد الجهوي للمكفوفين بمدينة مدنين  فُرْناً  كهربائيا لتحضير مختلف الأعمال المنجزة،كما تم تنظيم 4 معارض خاصة  بأعمال ورشة المكفوفين،بيعت فيها مُعظم الأواني والتحف الفخارية التي تم عرضها.

وعُرضت  هذه الاعمال في كل  من قصور مدنين وفي القرية الحرفية بجزيرة جربة وإتحاد المرأة وفي فضاء دار الثقافة بمدنين.

ولكن ” هذا المشروع سيتواصل وسنقوم بعرض أعمال المتكونين في معرض ختامي خاص  بهم كما تم تخصيص فضاء داخل مقر الاتحاد لعرض هذه الاعمال اضافة الى ان الورشة والفرن ستبقيان على ذمتهم في السنوات القادمة  “، بحسب ياسين الحجّام،  رئيس الإتحاد الجهوي للمكفوفين بمدنين

 دعم المجتمع المدني

لاقت هذه التجربة استحسان عدد كبير من مكونات المجتمع المدني في تونس حيث أبدت العديد من الجمعيات التونسية دعمها لهذا المشروع.

وفي العام الماضي قامت  جمعية” ميزييّيك” Museaique”المختصة في المجال الثقافي بتنظيم معرض خاص بأعمال المتكونين فاقدي  البصر  بمقر دار الثقافة بمدنين .

وداخل هذا الفضاء وقف المتكوّنون أمام أعمالهم لبيعها للعامة والتحاور معهم وإقناعهم بقيمة هذه الأعمال والإجابة على أسئلة المشترين، وهو ما عزّز أكثر  ثقتهم بأنفسهم وساهم في عملية إدماجهم  داخل المجتمع التونسي .

تكمن أهمية المشروع بحسب حفيظة لمين، رئيسة جمعية “ميزييّيك” ” في كونه “موجه الى فئة مهمشة ومغيبة داخل المجتمع الذي يضع حامل الإعاقة في حالة العجز، وكأنه غير قادر على أن يفعل أي شيء وليست لديه أي قدرات”.

وتابعت لمين قائلة “هذا المشروع يجعل  فاقد البصر يحس بقيمته أكثر، وفي نهاية الأمر أيّ شخص لديه إعاقة بشكل من الأشكال ولكن الإعاقة الحقيقية موضعها العقل والقلب والبصيرة، وحتى من كانت لديه إعاقة عضوية فتوجد لديه ضرورة مواهب وأحاسيس تترجم في قدرات أخرى يمكن أن يصنع بها نجاحات بل معجزات”.

وختمت كلامها بالقول “انطلاقا ممّا رأيناه داخل ورشة التدريب والأعمال المنجزة  قمنا بإنجاز مسرحية شارك  فيها  شخص فاقد البصر وأطلقنا عليها اسم ” ” بقلوبهم إيشوفوا”.

 أجمع كثير ممن تحدثنا إليهم على أن الموهبة بداخل كل شخص منا وهي  بحاجة  فقط إلى من  يكتشفها، وعلى أن المشروع الجهوي “الخزف آلية لدمج ضعاف وفاقدي البصر”  يمكن أن يتحول إلى مشروع وطني تشرف عليه مؤسسات الدولة، ويمكن أن يوفر مورد رزق  للآلاف من فاقدي البصر بدل أن يكونوا عالة على عائلاتهم .

يبلغ عدد فاقدي وضعاف البصر في ولاية مدنين 2185 وفقا للأرقام الرسمية للاتحاد الجهوي للمكفوفين بمدنين،ويبلغ  العدد على الصعيد الوطني قرابة 56 ألف حامل لإعاقة بصرية و160 ألفا يعانون من ضعف للبصر.

 يواجه اغلب هؤلاء مشكل البطالة لذلك يعتبر هذا المشروع نموذجيا في تونس ويحمل آفاقا ثمينة وهامة، حيث يمكن ان يخلق  لهم مجالاً ٱخرًا للعمل مخالفاً لما يدرسونه  في العادة ومنذ سنوات، حيث تعودت هذه الفئة ذات الاحتياجات الخصوصية من التونسيين التوجه إلى تعلّم مهنة العلاج الطبيعي أو مهنة موزّع الهاتف لممارستها  داخل الإدارات والمستشفيات نظرا لمحدودية المجالات التي يمكن لهم دراستها والتوجه إليها.

* بقلم هيثم المحضي

     

قائمة الموبايل