“التمييز الإيجابي ” عبارة أوجدها دستور 2014 ليُعبّر عن مطالب التونسيين في الجهات الداخلية المحرومة وليُعطيها صلاحيات على أرض الواقع أرادها المواطنون أن تتحقق بعد 2011، تغيّرت المصطلحات القانونية في دستور 2022 وعُبّر عنها ب ” العدل ” و” الإنصاف ” في بعض الفصول .
في مقاربة بين الأمس واليوم “دستوري 2014 و 2022 ” هل حقُق دستور 2014 التمييز الإيجابي في ولاية مدنين ؟ وهل يضمن دستور 2022 العدل والإنصاف للولاية ولمختلف جهات البلاد ؟
“التمييز الإيجابي ” و” التوزيع العادل للثورة ” ..علاقة جدلية؟
نعني بتطبيق مبدأ التمييز الإيجابي بين الجهات هو إعادة الحقوق لعدد من الولايات التي وقع تهميشها قبل الثورة من خلال تفعيل عدد من المشاريع التنموية في تلك الجهات لمحاولة لخلق توازن جديد بين مختلف مناطق البلاد.
وعلى مستوى التعريف القانوني لهذا المفهوم قالت أستاذة القانون الدستوري منى الدريدي كريم ” هذا المفهوم ورد في دستور 2014 وكان مرتبطا بتوزيع الثروات بين الجهات وهي تقنية تضمن الحد من عدم المساواة التي يمكن أن تنجر عن مبدأ المساواة في حد ذاته ” .
وأضحت ” أشخاص لا يوجدون في نفس الوضعية القانونية ويُطبّق عليهم القانون كما هو، لذلك يمكن أن يسمح القانون أو المُشرّع بالتمييز وذلك بإعطاء أكثر إمتيازات لبعض الفئات المهمشة أو بعض الأشخاص حتى يتمتعوا بحقوقهم كاملة ” .
وظاهريا يمكن إعتبار مفهوم ” التمييز الإيجابي بين الجهات ” قد يختلف إلى حدّ التّعارض مع مفهوم “التوزيع العادل للثروة بين كل التونسيين” بإعتبار أن إعتماد التمييز الإيجابي بين الجهات قد يجعل نصيب كل منطقة من الثروة غير متساوي مع بقية المناطقوهو ما قد يتعارض مع مبدأ المساواة بين كل المواطنين الذي تنص عليه أغلب القوانين الدولية ومن بينها قانون الأمم المتحدة .
وفي هذا الإطار يرى أستاذ القانون “مراد الميساوي ” بأنه عند التحدّث حول مفهوم ” العدل ” فإنه لابد من المساواة المجردة بين مختلف مناطق البلاد عكس مفهوم ” العدالة ” الذييعني ضرورة المساواة الواقعية التي تأخذ بعين الاعتبار واقع كل منطقة “
وأضاف ” إذا قمنا بتوزيع الثورة وفقا لمفهوم المساواة الواقعية قد نصل الى توزيع عادل للثروة وبالتالي الى تمييز بعض المناطق تمييزا ايجابيا تحقيقا للعدالة والمساواة الواقعية بين مختلف المناطق” .
ونص الفصل ال12 من دستور 2014 على أن الدولة تسعى إلى الاستغلال الرشيد للثروات الوطنية والى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة والتوازن بين الجهات استنادا الى مؤشرات التنمية واعتمادا على مبدأ التمييز الإيجابي .
وفي المقابل غاب لفظ ” التمييز الإيجابي ” بشكل صريح في دستور 2022 وفي المقابل جاء في الفصل السادس عشر منه أن” ثروات الوطن ملك للشعب التونسي، وعلى الدولة أن تعمل على توزيع عائداتها على أساس العدل والإنصاف بين المواطنين في كل جهات الجمهورية .
وبتخلُي المشرّع على مبدأ التمييز الإيجابي بين الجهات في دستور 2022 وتعويضه بمبدأ التوزيع العادل للثروة قد يدلّ هذا الأمر على تمشي جديد للسلطة التنفيذية في البلاد حيث أنها ستعسى الى إقرار التوازن بين كل الجهات دون أي إعتماد لمبدأ التمييز الذي لم يحقق الهدف من ورائه وأقر مجموعة من المشاريع ” الأوهام ” في الجهات المهمشة ولم تتجاوز الجانب النظري ولم تطبق الى اليوم ( مثل مشروع كلية الطب بمدنين )
التمييز الإيجابي لم يغير شيء في واقع ولاية مدنين
“أنا نشوف إلّي ما صارش تطبيق فعلي لمبدأ التمييز الإيجابي إلّي نص عليه دستور 2014” هكذا أجاب الشاب محمد الفرجاني، أصيل مدينة بنقردان الحدودية مع ليبيا ( 28 سنة / صاحب شهادة عليا )
يرى الفرجاني أن ولاية كولاية مدنين كان من المفروض أن تتمتع بالتمييز الإيجابي على مستوى المشاريع التنموية، لكن جُلّ المشاريع التي أنجزت في الجهة كانت مبرمجة من قبل سنة 2011 وإلى اليوم السكّة الحديدة لم تصل إلى ولاية مدنين وحتى كلية الطب أصبحت محل تندر على شبكات التواصل الإجتماعي من قبل جل التونسيين، وفق تعبيره
كما قامت حكومات ما بعد الثورة بإقرار مجموعة من المشاريع لفائدتها مثل كلية الطب بمدنين وإيصال السكة الحديدية وهو مشروع تم إقراره سنة 1986
ومشروع إنجاز جسر رابط بين مدينة آجيم بجربة ومدينة الجرف بمدنين وإحداث المنطقة الحرة للتجارة في منطقة الشوشة الواقعة على الحدود التونسية الليبية.
وجل هذه المشاريع لم ترى النور الى اليوم حيث لم ينجز من كلية الطب سوى لافتة على الطريق المؤدي الى ولاية تطاوين كتب عليها ” كلية الطب بمدنين.
وبالرغم من زيارة اكثر من وزير للنقل الى الولاية وتعهده بإتمام مشروع ايصال السكة الحديدية الى ولاية مدنين الا ان المشروع لم ينطلق بعد
منظمة بوصلة .. دستور 2014 أقرّ إجراءات إستثنائية لصالح المناطق المهمشة دون أي نتيجة
منظمة بوصلة تعتبر من بين أهم هياكل المجتمع المدني التي لعبت دورا كبيرا في الجانب الرقابي سواء في مداولات مجلس نواب الشعب أو في مراقبة عمل الحكومة.
هيثم زيد، المكلف بالإعلام في منظمة بوصلة، يرى بأن مسار العدالة الإنتقالية هو أول من حدد مصطلح ” الجهات الضحيّة ” حيث نص على ضرورة وجود عدل وتوزان بين الجهات وأقر ذالك دستور 2014 في فصله الثاني عشر
و قال هيثم زيد ” رغم أن الدولة خلقت امتيازات جبائية في المناطق الداخلية ووضعت تسهيلات لرجال الأعمال مثل الإعفاء الجبائي إلاّ اننا في بوصلة نعتبر أن هذا قد أثقل كاهل الدولة لأن الامتيازات التي أعطتها الدولة يجب أن يضاف اليها تسهيلات لجلب المستثمرين أو أن توفر بنية تحتية وادارية لتسهيل الطريق أمام المستثمرين الأجانب، وفي الأخير لم تتراجع نسب البطالة مثلا في عدد من الجهات الداخلية بعد هذه الاجراءات”
من جانب آخر يعتبر هيثم زيد أن هذا يتنافى مع دستور 2022 الذي أوجد عبارات مختلفة والتي تنص في مجملها على العدل بين الجهات .
دستور 2022 .. آمال كبرى بتطبيق التوزيع العادل للثروة
من جانب واقعي يرى المواطنون أنهم في عملية عدم فهم للمستقبل السياسي للبلاد في ظل عدم اكتمال الصورة لمرحلة ما بعد الاستفتاء، خاصة وان العمل بالنظام الذي نص عليه دستور 2022 يقتضي تواجد مجلس نواب تفصلنا عنه اشهر قليلة ومنه تنبثق عنه مجالس الجهات التي تتوزع على 24 ولاية ومجالس محلية يقدر عددها 264 مجلس محلي، لا نستطيع في الوقت الراهن الحديث على مجال تنموي عادل الاّ بإكتمال الصورة.
وقال رئيس جمعية جربة للتضامن والتنمية طه بوشداخ ” حكومات ما بعد الثورة قامت بالتمييز السلبي بين الجهات عوض التمييز الإيجابي الذي جاء في الدستور “.
وتابع ” ولاية سيدي بوزريد ) مهد الثورة سنة 2011 ( مثلا أخذت نصيب الاسد من الكعكة وعُمّق بذالك التمييز السلبي بين الجهات، كما تشير حيث تشير أرقام رسمية سنة 2020 إلى أن حصة ولايات الجنوب الشرقي الثلاث ( مدنين / تطاوين / قابس ) من الناتج الداخلي الخام 7.8 بالمائة اما في العاصمة فتتجاوز حاجز ال 30 بالمائة “
من جانب آخر أشار الناشط المدني بوشداخ الى أن ” مشروع القنطرة الرابطة بين الجرف ( مدنين)وآجيم ( جربة ) مشروع هام لأهالي الجزيرة وكل التونسين القادمين لجربة خاصة خلال فصل الصيف الا انه مشروع تبخّر رغم جديّة المستثمر الصيني وفي المقابل تم مؤخرا انشاء جسر ثان في ولاية بنزرت التي لا تعتبر من الولايات المهمشة “
وخلال فصل الصيف تشهد جزيرة جربة التي تعتبر الوجهة السياحية بالبلاد اقبالا كبيرا من السياح التونسيين والأجانب
ويواجه أغلب القادمين الى جزيرة جربة برّا مشكل الانتظار الذي قد يصل الى أكثر من 5 ساعات في انتظار عبارات التي تربط جزيرة جربة بمدينة الجرف .
ومنذ سنوات يطالب اهالي جربة بسرعة إنجاز جسر رابط بين الرجف واجيم لتسريع الدخول والخروج للجزيرة .
وفي ذات الموضوع قال سميحة ملّاح ( شابةثلاثينيةمن منطقة آجيم جربة ) ” مشروع قنطرة آجيم هو مشروع حلم بالنسبة لأهالي وبتعطله تعطلت كل الإستثمارات الاخرى التي اقرت خلال السنوات الفارطة وما نطالبه اليوم هو تفعيل هذه المشاريع التي تعتبر من حقنا “
وفتح مبدأ التمييز الايجابي بين الجهات الباب أمام إتساع آمال اهالي المناطق المهمشة في تونس بوجود مشاريع تنموية في جهاتهم كانت غائبة عنهم وحاضرة في مناطق دون سواها خلال فترة ما قبل2011 .
ووعدت العديد من الحكومات بتغيير الواقع التنموي للجهات المحرومة في تونس واطلقت الوعود بإنشاء العديد من المشاريع التنموية الكبرى .
وقال الناشط المدني بمدنين عبد الوهاب ماضي” يجب ان نخرج من الاطار النظري الى الاطار العملي ولكن هذا يعترضه صعوبات كبرى ومن بينها سقف طموحات المواطنيين وبيروقراطية الادراة التونسية”
واضاف ” نحن في مدنين لدينا مقومات استثمارية كبرى فهذه الولاية تعتبر بوابة تونس نحو الشرق وافريقا ولا بد أن نُسوق لها بشكل كبير”
وفي ولاية مدنين 3 منافذ بحرية وجوية وبرية وهي المعبر الحدودي براس جدير الرابط بين تونس وليبيا ومطار جربة جرجيس الدولي والميناء التجاري بجرجيس
ضمانات تطبيق دستور 2022
لضمان تطبيق دستور 2022 ومن بينها الفصل الخاص بالتوزيع العادل للثروة بين كل التونسيين يستوجب على كل فرد في المجتمع ممارسة دوره في المراقبة المجتمعية لعمل السلطة التنفيذية ) رئيس جمهورية + حكومة (
أستاذة القانون الدستوري منى درديدي كريّم قالت “الوسائل المتاحة للمواطن التونسي حتى يضمن تطبيق فصول الدستور خاصة في ما يتعلق بالحقوق والحريات لا يمكن تكون إلا قضائية “
وأوضحت ” في صورة ماتم خرق هذه الحقوق وعدم إحترامها من طرف الإدارة التونسية او من طرف الدولة يمكن للمواطن التونس ان يلجأ للقضاء المدني او الاداري حتى يضمن حقوقه ولكن يبقى الامر مرتبطا بتأويل القضاء لهته الحقوق والحريات “
وبحسب ” كريّم ” فإنه توجد وسائل أخرى غير قانونية لضمان تطبيق فصول الدستور وإنما تعتبر وسائل متاحة ومقبولة كالتنديد عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول كل الخروقات التي يمكن ان يتعرض لها المواطن التونسي سواء بعلاقته بالدولة على مستوى الحقوق والحريات او كيفية ممارسة السلطة طبقا لدستور 2022 .
وبهذا هل يستطيع المواطن التونسي رفع قضية بالمشرّع أو بالسلطة التنفيذية لمجرد عدم قدرتها على تطبيق فصل من فصول دستور 2022 على غرار الفصل الذي ينص على ضرورة التوزيع العادل للثروة على كل التونسيين ؟.
الإجابة كانت من أستاذة القانون العام “حفيظة شقير ” التي قالت “نعم المواطن التونسي يستطيع رفع قضية بالمُشرّع ولكن القضية متمثلة في اثبات عدم دستورية فصل من الفصول”
وأوضحت “تحدث هنا على امكانية رفع قضية في عدم دستورية فصل من الفصول إذيمكن ان يرفع اي المحامي قضية للمحكمة الدستورية( تخص قضية مُنوبه) في عدم دستورية فصل معين وان أقرت المحكمة بعدم دستورية هذا الفصل فلا يمكن للقاضي الحكم به في ذات القضية “
وبحسب خبراء القانون فإن الأهم من التنصيص على ضرورة التوزيع العادل للثروة بين كل التونسيين هو ابراز كيفية تطبيق هذا الفصل .
وبعد المصادقة على دستور 2022 في شهر جويلية الفارط من المنتظر أن يصدر رئيس الجمهورية قيس سعيد مجموعة من المراسيم يتم من خلالها تطبيق فصول الدستور فجل فصول الدستور موجودة في احكام عامة وتستوجب ضرورة قوانين أو مراسيم عملا بالأمر عدد 117
الى حين انتخاب مجلس لنواب الشعب في ال 17 من ديسمبر 2022