قصور بنقردان .. إرث تاريخي مُهمل يصارع من أجل البقاء

In الأخبار, جهوية On
- تم تحديثه في

كان قصر بنقردان إنطلاقة صاحب قصة أشهر الأغاني التراثيّة في تونس  “عالجبين عصابة”   التي ردّدها أغلب الفنانين  التونسيين، وأشهرهم ” الهادي دنيا”

وكغيرها من مناطق الجنوب الشرقي التونسي عرفت مدينة بنقردان   انتشارا واسعا للقصور منذ عشرات السنين .

وبحسب الدكتور محمد الزواري فإن القصر الذي تحدثت عليه أغنية “عالجبين عصابة ” هو قصر”النوايل ” الذي تم تشييده   نهاية القرن السابع عشر، وقام المجلس البلدي ببنقردان بهدمه سنة 1984. 

ولا يختلف مصير قصر “النوايل” عن بقية القصور التي شُيّدت وسط مدينة بنقردان مع بداية القرن العشرين،في محاولة من المستعمر لتركيز الأهالي في شكل تجمعات حضاريّة بعيدة عن  الأرياف، حيث ضرب الإهمال هذه المعالم التي إندثر أغلبها اليوم ولم يبق منها سوى ركام من الأحجار.

غير بعيد على مقرّ بلديّة بنقردان  تنتشر هذه القصور ( تسمى أيضا بالغُرف )  التي تحكي تاريخ المدينة وثقافتها ونمط عيش أهلهما منذ عشرات السنين، فوسط المدينة  لزال قصر “عْظَيِّمْ” شامخاً يُصارع الإهمال من أجل البقاء  فيما  سقطت  أغلب  القصور .

 بيوت صغيرة في شكل غرف  متداعية للسقوط،لا أبواب فيها تحوّلت إلى  نقاط  سوداء  بسب تكدّس  الفضلات داخلها، بينما تم بناء دكاكين حديثة مكان بعض الغرف الأخرى  بعد سقطوها، لممارسة أنشطة تجارية .

والقصور تتكون من غرف صغيرة تكون  في شكل طابق واحد أو أكثر، وكانت في السابق تُستعمل  لتخزين المؤونة أو للسكن .

وفي مدينة بنقردان  توجد الكثير من القصور الكبيرة والصغيرة، ومن بينها قصر “عْظَيِّمْ” وقصر “الجْرَاء” وقصر” السْبِيسِي” وقصر ” الشْوَاوْطَة ” .  

غياب للهويّة وتشويه للمدينة

في قلب كل مدينة في العالم توجد هوية تاريخيّة في شكل حي تاريخي” هكذا بدأ الدكتور محمد زواري، رئيس جمعية صيانة المدينة ببنقردان  حديثه معنا  .

فبالرغم من التطور المعماري الكبير تبقى العديد من المباني القديمة شاهدة على تاريخ المدينة، غير أن الإهمال الذي ضرب قصور بنقردان، من خلال إزالة عدد منها، من شأنه محو مرحلة هامة من تاريخ المدينة .

وقال الزواري  “قامت البلدية في السابق بإزالة قصر الشْرايْحة الموجود بالقرب من حديقة الشهداء، كما قامت بإعطاء  رخص لبناء أحواش  ودكاكين  جديدة  وهو ما إعتبره تشويه للمدينة، ومن المفترض  المحافظة على طراز وهويّة مدينة بنقردان “.

بدوره  قال الدكتور علي المنصوري، المكلف بالبحوث في المعهد الوطني للتراث ” خلال فترة الثمانينات إنطلقت  مؤسسات الدولة  في حملة لتهذيب المدن وتمت إزالة مجموعة من القصور  في جهة الجنوب الشرقي  “.

وشمل هذا القرار عددًا من قصور مدينة بنقردان، كما تم في مرحلة قادمة بناء بناءات جديدة بالقرب منها  دون مراعاة لخصوصية هذا المكان .

وبالرغم من أن المنطق العام الذي يضبط العلاقة بين البلدية وبقية الهياكل العموميّة يفرض على  البلديات إستشارة المعهد الوطني للتراث عند إسناد رخص جديدة  لإستغلال أو للبناء داخل المناطق ذات الصبغة التارخية، غير أن بلدية بنقردان قامت بإعطاء رخص  دون إستشارة المعهد .

وفي هذا الاطار قال علي المنصوري  “لم تصلنا رخص للنظر فيها من قبل بلديّة  بنقردان، عكس بقية البلديات التي قامت  بإستشارتنا قبل إعطاء  رخص إستغلال داخل الأماكن ذات الصبغة  الاثرية  “ .

مشكل عقّاري

تعود ملكيّة  قصور مدينة بنقردان إلى  العائلات الكبرى التي سكنت المدينة منذ عشرات السنين، لذلك فإن أغلب هذه القصور  تستمدّ إسمها من إسم مالكيها .

واليوم، من الصعب جدًّا تحديد الجهة المالكة الفعلية لهذه القصور  وهو ما قد يصعّب في عملية  ترميم هذه المعالم أو إستغلالها  .

 ويعتبر هذا المشكل العقاري من أكبر المشاكل التي تواجهها بلدية بنقردان خلال منح رخص الإستغلال في  أماكن تواجد هذه القصور، حيث قال  حسين نبيغ  المسؤول في بلدية بنقردان ” هذا الأمر أصبح مُرهقاً حقا، يأتي شخص بشهادة ملكية لأرض معينة ونقوم بالتثبت  في هذه الشهادة ونعطيه الترخيص، ثم بعدها يأتي اخرون يثبتون ملكية نفس الأرض ” .

وبحسب ” نبيغ ”  فإنه لا يوجد إلى غاية اليوم تحديد واضح  للمالكين  الفعليين لهذه القصور .

بدوره قال بديع قتات، المهندس والعضو في المجلس البلدي السابق ” المشكل  عقاري بإمتياز،  فاليوم تجد لكل غرفة  أكثر من مالك وأكثر من عائلة  لذلك يصعب معالجة هذا الملف خاصة مع عدم وجود قرار إنتزاع  ” .

ولإثبات الملكيّة  وتجاوز المشكل العقاري الذي عطّل عمليّة  ترميم القصور أو استغلالها من قبل هياكل  الدولة،  دعا حسين نبيغ المسؤول في بلدية بنقردان الى تفعيل ”  المسح الاجباري ” لتحديد ملكية هذه المعالم .

وأشار “نبيغ”أن  الحل الوحيد يتمثل في وجود مجلس بلدي قوي قادر على  العمل على هذا الملف  المتشعّب .

 

غياب الإرادة وضعف الإمكانيات المالية 

يتولى معهد التراث في تونس صيانة المعالم الأثريّة  المتواجدة في كل ربوع البلاد، ومن بينها القصور المتواجدة  في جهة الجنوب الشرقي التونسي .

وقام المعهد بالتدخّل لصيانة عدد من القصور الصحراوية في مدنين وتطاوين وترميمها، غير أن وضعية قصور بنقردان تبدو مختلفة بعض الشيء بسبب عدم القدرة على التدخل في ظل تواصل المشكل العقاري ، إضافة الى ضعف الإمكانيات المالية للمعهد .

وقال الدكتور علي المنصوري، المكلف بالبحوث في معهد التراث ”  الإمكانيات المالية لمعهد التراث ضعيفة، هذا  إضافة إلى انه لا يمكن للمعهد  فرض الترميم على العائلات  ولا تكون العملية الا بالتنسيق معهم، وحتى مع وجود عملية الترميم فإن الملكية تبقى للعائلات  ” .

من جانبه إقترح رئيس جمعية صيانة المدينة، محمد الزواري،أن تقوم بلدية  بنقردان  بعملية الترميم لإستغلال هذه المعالم الأثرية، وفي صورة  وجود نيّة من أصحاب هذه القصور لإستغلالها وجب عليهم دفع  كلفة الترميم، وفق تعبيره .

وكغيره من المجالس البلدية  تمتّع المجلس البلدي ببنقردان بصلاحيات واسعة لتنفيذ عدد من المشاريع الإصلاحية في المدينة، ومن بينها  إيجاد حل لمشكل هذه القصور بالتنسيق مع جميع الجهات المتداخلة .

وقال بديع قتات المنهدس والعضو في المجلس البلدي السابق  “قمت بابراز هذا الملف أكثر من مرّة في المجلس البلدي السابق، ولكن للأسف  لم يكن هنالك أي تجاوب، واليوم  يجب اليوم خلق هيئة تتولى   معالجة هذا الملف  ” .

فرصة الترميم مازالت قائمة

تظل إمكانية ترميم مثل هذه المعالم  قائمة، ومع غياب إرادة  قوية من قبل بلدية بنقردان، توكل المهمة الى المجتمع المدني  في المدينة لتقديم مشاريع لصيانة هذه القصور أوإستغلالها .

وفي سنة 2019  قدمت جمعية صيانة المدينة إلى بلدية بنقردان  مشروعاً لترميم عدد من هذه القصور، غير أن هذا المشروع  إصطدم بالمشكل العقاري .

 وقال رئيس الجمعية محمد الزواري ” قدمنا مشروع مموّل من  الاتحاد الأوروبي يتعلق بتحسين حيّ من  الأحياء القديمة للمدينة ( أو أكثر ) وتم اختيار قصر ” عظيّم ” والحي المجاور  لإدماجه في  الحياة الاقتصادية وقدمنا مقترحات لإنجاز سوق صغير أو دور ضيافة، وبعد جلسات مع البلدية  توقف هذا المشروع  بسبب عدم تجاوبها وتعللت بوجود مشكل في مستوى الملكيّة ” .

وحول هذا المشروع أشار  المسؤول في المعهد الوطني للتراث بأنه لم يصل أي شيء  الى المعهد في هذا الخصوص، داعيا الى توجيه مثل هذه المشاريع المتعلقة بالمعالم الاثرية  مباشرة الى المعهد للنظر فيها والاشراف عليها .

وللمعهد الوطني للتراث تجربة هامة في عملية ترميم المعالم الاثرية  كترميم عدد من القصور في جهة الجنوب الشرقي

وقال علي المنصوري ”  إكتسبنا خبرة كبيرة في الترميم، وعملنا مع   مختص في عملية الترميم و كانت نتائج العمل  مبهرة ويمكن التعويل عليه في ترميم مثل هذه المعالم ” .

 وبالرغم من سقوط أغلب أجزاء غرف القصور الا أن عملية  الترميم لزالت ممكنة، بحسب المهندس بديع قتات .

وقال قتات ” علمية الترميم ممكنة خاصة في قصر “عْظَيِّمْ “ وحتى ان سقطت بعض الأجزاء يمكن أخذ صورة سابقة  له واضافة نفس الأجزاء بأسلوب هندسي  تقليدي “.

 

في ظل ضعف الإمكانيات المالية للمعهد الوطني للتراث توفر العديد من الجمعيات والمنظمات الدولية منح لمساعدة بلادنا على تثمين المعالم الاثرية في  كامل مناطق الجمهورية .

ومن بين ابرز المنظمات المانحة والتي تعمل على مساعدة تونس  في هذا المجال،  برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمركز الدولي للتنمية المحلية والحكم الرشيد- وكالة التعاون الدولي لجمعية البلديات الهولندية والمؤسسة الألمانية للتعاون الدولي .

*بقلم هيثم المحضي

قائمة الموبايل