قرية الأطفال “SOS” قمرت .. عائلة تونسية موسّعة، محتفظة بكل معاني الدّفئ والقيم النبيلة

In الأخبار, وطنية On
- تم تحديثه في

تقوم قرية الأطفال “SOS ” قمرت برعاية الأطفال فاقدي السند،ويرتبط هذا الفضاء في المخيال الشعبي التونسي بالأطفال خارج إطار الزواج والإجرام غير أن الحقيقة تثبت زيف هذا..

عند زيارتك قرية الأطفال “ SOS قمرت ” لن يمرّ وقت طويل حتى تنهار عندك تلك الصورة النمطية التي قد تكون رسمتها – كغيرك من معظم التونسيين – حول طبيعة العيش في قرى س و س، لتحضر صورة أخرى لأي حي سكني تونسي في أزقة العاصمة أو في إحدى ولاياتها.

بيوت تزيّنت باللونينالأبيض والأزرق وأزقة مُبلّطة توحي لزائرها أوّل مرة بمدينة سيدي بوسعيد، أشهر الوجهات السياحية بالبلاد، ربما يكون مصمّم البناية قد استأنس في تصميمه بالقيم الجمالية لهذا الإرث السياحي العالمي الذي لا يفصله عن القرية مسافة بعيدة.

هنا استولت مشاهد الجمال على كل شيء، أطفال صغار بابتسامة بريئة يرقصون احتفالا باليوم الوطني للباس التقليدي، أم تضمّإليها أبنائها الصغار بكل مشاعر الأمومة الغامرة، ولاعبة المنتخب التونسي لكرة القدم النسائية (من بنات القرية) تحدثك على حلمها في حصد ألقاب عالمية مع منتخب بلادها.

 

“SOSقمرت” .. القرية الحيّ

جولة سريعة في رحاب القرية وفضائها المفتوح الممتد على 4 هكتارات، تجعلك تترك خلفك بلا رجعة الفكرة السائدة  أن أطفال وشباب SOSيعيشون داخل مبيتات مغلقة كتلك المخصّصة لطلاب الجامعات.

فلا يكاد يختلف نمط عيش أطفال هذه القرية  كثيرا عن نمط عيش العائلات التونسية، بل يمكن اعتباره بالمجتمع التونسي المصغّر، حيث تتواجد داخل  فضاء القرية بيوت متجاورة تسكنها عائلات تونسية مكوّنة من الأم (الأم الحاضنة) وأولادها (ستة أبناء أو أقل) الذين تتراوح أعمارهم بين 4 أشهر و14 سنة.

“هنا تعيش العائلات كجيران، وأكثر المشاهد التي أسعد برؤيتها هو تبادل أطباق الأكل بين عائلات القرية سواء خلال مواسم الأعياد الدينية أو حتى خلال سائر الأيام”، هكذا يقول خليل خليل مدير هذه المنشأة الاجتماعية قبل أن يتابع ” لا يختلف المشهد عن بقية الأحياء التونسية ففي أكثر من مرة تحصل مشاكل بين عائلتين إثر خصام بين طفلين، فتجد كل أم تدافع عن صغيرها وربما يصل الأمر الى مشكل بين العائلتين”.

 

داخل بيتها تستقبلك الأم مبروكة (44 سنة) التي تعيش رفقة أبنائها ال 6 لتحدثك عن مملكتها التي ترعاها بكل ما لديها من طاقة إيجابية وحبّ وتفاؤل، فهي تحاول أن توفر لهم بما تضعه إدارة القرية على ذمتها من إمكانيات (جراية شهرية)كل مستلزماتهم منذ صغرهم إلى غاية بلوغهم الرابعة عشر، سنّ الانتقال إلى مرحلة ثانية من عالم SOS وهو المبيت الذي يشرع الشبان فيه في تحمل المسؤولية والتعويل على الذات تمهيدا لمرحلة أكثر صرامة هي الاندماج الاجتماعي في الدورة الاجتماعية والاقتصادية.

كل شيء في بيت مبروكة مرتب ومنمق بشكل يحاكي تحفّز هذه الأم وعلوّ همتها في بناء شخصية طفل متوازن ناجح، هي تجتهد في توفير كل المستلزمات التي يمكن أن يوفرها أي رب عائلة تونسية  لأبنائه،هنا غرفة استقبال الضيوف يجاورها مطبخ متكامل، وهنالك غرف النوم الخاصة بالصغار التي تحتوي على لعبهم ولوازم الدراسة.

 تسعى مبروكة لتوفير كل ما ينبغي توفيره لإنجاح أبنائها،فبالنسبة لها هم الأفضل والأحسن على جميع المستويات.

في حديثها عنهم لا تُخطئ بإستعمال ألفاظ أخرى غير “أبنائي أو أولادي”.

تقول مبركة ” أعطيت أبنائي  كل وقتي،وسعادتي الحقيقية تتحقق عند رؤيتهم سُعداء، وحتى الكثير ممن يتوجهون إلى المبيتاتيعودون إلى هذا البيت ليزورواإخوتهم، وهذا يسعدني” .

“حتى عند غضبهم مني ينادونني ب “أمي أنا غاضب منك” وهذا ما يزيد في سعادتي  فلو لم يقولوا  يا “أمي ” لغضبت أنا منهم”، تمضي هذه الأم الاستثنائية في عملية سرد يملؤه الفخر لأوجه مختلفة من علاقتها بالأطفال.

 

القرية تستقبل جميع الأطفال المهدّدين في حياتهم الاجتماعية

كغيرهم من أطفال القرية، يواجه أبناء مبروكة بعض الصعاب في الاندماج داخل المجتمع التونسي. فمجرد التعرف على انتساب الطفل ل “قريةSOS“، قد  يعرضه إلى رفض التعامل معه من قبل بقية التونسيين أوبشيء من الإحترازأو على أساس التمييز السّلبي الذي يصل أحيانا حدّ الوصم.

ويعتقد الكثير من التونسيين أن القرية مخصصة لإستقبال الأطفال المولودين خارج إطار الزواج (وهو ما يرفضه المجتمع التونسي المحافظ)، دون سواهم غير أن قريةSOS توفر  خدمات الرعاية ل 44 طفل من بينهم أطفال ينتمون إلى عائلات طبيعية ولكن ظروفا قاسية جعلت منهم أطفالا مهددين واستوجبت إيوائهم بالقرية من أجل حمايتهم.

هنا يؤكد مدير القرية :” الأولوية في الاستقبال داخل هذا الفضاءتبقى للأطفال المولودين خارج إطار الزواج ولكن القرية تستقبل كل طفل مهدّد قبل سن ال 6 سنوات مع وجود  تقرير القاضي الذي يؤكد بأن حجم التهديد يقتضي الرعاية المؤسساتية،إذ يوجد لدينا الكثير من الصغار قادمين من عائلات طبيعية ولكن الوالدين يشكلان تهديدا حقيقيا على سلامته فيقع استقباله في هذه القرية إلى حين تعود الأمور إلى نصابها”.

 

 ولئن تحدثت تقارير إعلامية في أكثر من مناسبة على وجود ظاهرة  الإجرام واستهلاك المخدرات  لأطفال يعيشون داخل هذه القرية،وبالنظر الى الأرقام الرسمية يمكن القول بأن نسبة  ظواهر الإجرام أقل بكثير من ما هو موجود داخل الأحياء التونسية أو الفضاءات التربوية.

حيث تشير تقارير رسمية لوزارة التربية إلى أن  اكثر من 100  ألف طفل تونسي ينقطعون سنويا عن الدراسة  بالرغم من كونهم يعيشون ضمن إطار عائلي وإجماعي متوازن .

من جانب آخر وبحسب القاضية  ليلى عبيد ( في تصريح صحفي لقناة نسمة )، فإن 80 بالمائة من جرائم الأطفال تقع داخل  المدارس والمعاهد أو محيطهما.

 

“نيمار” تونس

تفاني مبروكة وعشرات الأمهات الحاضنات في تنشئة أجيال متعاقبة ممن مرّوا على قرية قمرت أثمر ولا يزال قصص نجاح لأطفال نجحوا في حياتهم الدراسية وارتقوا في السلّم الاجتماعي والوظيفي درجات عليا.

على مدى عشرات السنين خرج من القرية العديد من الشبان الناجحين في شتى المجالات، فالكثير منهم يعمل في مجال الدبلوماسية التونسية والطب والهندسة والوزارات ومنهم ما صار نجما في مجاله وتخطت نجاحاته حدود الوطن..

“هذه القرية أنجبت رجال ونساء وقدمت نماذج ناجحة في المجتمع فمنهم من أصبح اليوم يقود الطائرة “، بحسب محمد قطبي المنسق المحلي للمكتب الاجتماعي داخل  قرية س و إس قمرت.

  تُمنّي  سحر  (اسم مستعار) صاحبة ال 14 ربيعا النفس بأن تكون من هؤلاء النجوم وتعتقد أنها تملك الوسائل لتحقيق حلمها.

تعيش  سحر  في قرية sos قمرت، تميزت  في دراستها،واستطاعت أن توفّق بين التعليم وشغفها بكرة القدم النسائية.

تنشط هذه الطفلةاليافعة المتقدة حيوية ضمن المنتخب التونسي لكرة القدم النسائيةحيث استطاعت أن تثبت جدارتها بهذا المكان بفضل المردود الذي قدمته في المقابلات التي  خاضتها مع فريقها الناشط في الدوري التونسي .

وقالت سحر “هنا داخل هذه القرية تعلّمت كرة القدم عندما كنت صغيرة، كنت أذهب مع إخوتي الذكور للملعب وبالرغم من رفضهم لي بأن ألعب معهم تشبثت بهوايتي وتمكنت من اللعب معهم ومن هناك واصلت اللعب الى غاية اليوم ” وتابعت ” قدوتي هو اللاعب البرازلي نيمار الذي يتميز بمهارات فنية كبيرة خاصة في مستوى المراوغات أريد أن أصبح مثله”.

 تمضى هذه الفتاة التونسية الحالمة في البوح عن مرادها :” أحلم بان أمثل منتخب بلدي أحسن تمثيل وأشارك في جلب الألقاب الإفريقية والعالمية لتونس”.

 

إستقلالية مالية

أحلام الطفولة في قرية الأطفال  قمرت هي أحلام أطفال القرى الثلاثة الأخرى بسليانة (في الشمال الغربي)وأكودة(في الوسط) والمحرس (بالجنوب)، هي أيضا أحلام القائمين على الجمعية التونسية لقرى الأطفال الذين لا همّ لهم سوى القضاء على مختلف أشكال التهديد التي تحدق بنحو 31 ألف طفل ولكن القرى الأربع لا تملك من الإمكانيات المالية إلا ما يسمح لها برعاية ب2500 حاليا.

وأمام العمل الكبير الذي تقوم به  الجمعية التونسية لأطفال SOS  قمرت  في رعاية الأطفال  فاقدي السند منذ ما يزيد عن ال 40 عاما، يعتقد الكثير من التونسيين أن هذه الجمعية هي هيكل حكومي  تحضى بتمويل ميزانيتها بالكامل من الحكومة التونسية .

غير أن نقص الموارد المالية هي التي تحول بين الجمعية وآلاف الأطفال الموجودين على لائحة الانتظار وقد تعاظمت حدتها منذ أن رفعت الفيدرالية الدولية لقرى SOS عنها الدعم المالي في 2019

وتتراوح مساهمة الدولة في ميزانية الجمعية  بين 20 و50 بالمائة سنويا  لذلك فهي مطالبة بتوفير ما بقي من موارد لتلبية حاجيات الأطفال من الإيواء والمأكل والملبس والتعليم والرعاية الصحية والنفسية بالاعتماد على الدعم المجتمعي.

رغم المصاعب  تبقى تجربة رعاية أطفال قمرت تجربة إنسانية فريدة إستطاعت أن توفر دفئ العائلة للأطفال فاقدي السند فعند مغادرتك لهذه  القرية لن تحمل معك سوى صورة طبيعية لعائلة تونسية  موسعة تعيش داخل مجتمع مصغر  محتفظة بكل معاني القيم النبيلة

قائمة الموبايل