“أنا تونسية قبل أن أكون يهودية”، كانت تلك أولى كلمات التونسية من الديانة اليهودية “آني قابلة” عند حديثها معنا، امرأة خمسينية لديها صداقات واسعة في جزيرة جربة التي تعيش فيها.. في مقهى الحاج حسن الذي يعتبر ملتقى مثقفي الجزيرة، كان اللقاء مع “آني” للحديث معها حول مشاركة يهود جربة وبقية الأقليات في تجربة الحكم المحلي التي انطلقت منذ الانتخابات البلدية عام 2018.
وتعتبر جزيرة جربة أنموذجا للتعايش في العالم، حيث توجد فيها أقليات عرقيّة (الأمازيغ) ودينيّة (اليهود)، ويعيش هناك أكثر من 1200 مواطن تونسي من الديانة اليهودية، وفقا لأرقام بلدية جربة حومة السوق، ويتوزّع هؤلاء بين منطقة الحارة الكبيرة (تبعد قرابة الكلم عن مركز الجزيرة) ومدينة الرياض (تعرف أيضا باسم الحارة الصغيرة وتبعد قرابة الـ 6 كلم عن مركز الجزيرة مدينة حومة السوق).
يهود جربة : قوانين معرقلة للمشاركة في العمل البلدي
انتظارات كبيرة كانت تأملها “آني” قبل الانتخابات البلديّة لكن، وبعد مرور أكثر من سنتين ونصف من تركيز المجلس البلدي ببلدية جربة حومة السوق، تعتبر أن لا شيء قد تغيّر. تقول: “لا يقع استدعائي كناشطة في المجتمع المدني في الجلسات البلديّة، وأغلب الاجتماعات لا أعلم بها إطلاقا، وحتّى توقيتها لا يناسب اليهود الذين يعيشون في الجزيرة، حيث تقوم البلدية ببرمجة اجتماعاتها عشية يوم الجمعة أو عشية السبت موعد الشبّات عند اليهود “، و”الشبات” هو إحدى طقوس اليهود الدينية، يدخل بغروب شمس يوم الجمعة ويتواصل إلى غاية يوم السبت، ويعتبر اليهود هذا اليوم مخصصا للعبادة فقط لا يخرجون فيه للعمل.
من جانب آخر، أشارت “آني” إلى أنّ الاجتماعات البلديّة يتم إجراؤها في الطابق العلوي، وهو ما يمنع مشاركة الأشخاص ذوي الاعاقة، وبالرغم من حديثها مع رئيس البلدية في هذا الأمر وضرورة اجراء الاجتماعات في القاعات الأرضية إلا أنه لم يتم الاستجابة لطلبها.
وحول تقييمها لمشاركة يهود جربة في العمل البلدي، تقول آني: ” صحيح أنه يوجد عزوف كبير ولكن يقابله أيضا تغييب من قبل الجهات المسؤولة إذ لا يتم استدعاؤنا إلّا لتزيين المشهد مثل ما يحصل في الحملات الانتخابية”.
وحول القوانين التونسية تساءلت “آني” عن مدى جدوى المشاركة في العمل البلدي مع وجود تشريعات دستورية تقصي التونسي من غير الديانة المسلمة من الترشح مثلا لمنصب رئيس الجمهورية، داعية المشرّع التونسي إلى ضرورة تغيير مثل هذه الفصول لتطبيق المساواة بين كل التونسيين بصرف النظر على ديانتهم.
يعتبر رئيس الدائرة البلدية بحومة السوق، مراد الميساوي أنه من الصعب جدا الحكم على مدى مشاركة الأقليات في العمل البلدي باعتبار أن اكثر من ثلثي العهدة الانتخابية واجهت أزمة الكوفيد التي حالت دون الاجتماعات المباشرة بالأهالي، واعتبر أنه “لا يوجد تعامل كبير مع الأقلّيات في مدينة حومة السوق، ويقتصر الأمر على بعض التشكّيات الفرديّة أو في مشاركتهم في إعادة تهيئة الكنسية الكاثوليكيّة بالجهة مثلا، وفي المقابل يوجد إقبال كبير على طلب الخدمات المدنية”. كما أضاف: “نحن منفتحون على مختلف الأقليات لكن لاحظنا عزوفا كبيرا عن الاجتماعات من قبل أهالي السواني مثلا (أين يعيش أغلب اليهود)”.
أمازيغ قلالة: مشاركة ضعيفة
لا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لأمازيغ مدينة قلالة، إحدى أهم مدن الثقافة الامازيغية في تونس، حيث يعتبر الدكتور الباحث في الحضارة الامازيغية فتحي معمّر بأنّ عزوف أهالي المنطقة مرتبط أساسا بالعزوف العام للمواطن التونسي حول المشاركة في العمل البلدي.
يقول معمّر: “الطّاغي على ثقافة الأمازيغ هو عدم الاهتمام بالشأن العام إلى جانب أن أغلبهم لديه وضعية مالية ميسّرة، وهو ما يكرّس الاعتقاد السائد بأن العمل البلدي غير مهم.
من جانب آخر، يؤكد الباحث التونسي على أهمية الدور الاتصالي للقائمين على بلدية المكان في توعية المواطنين بأهمية المشاركة في الديمقراطية التشاركية وفوائدها على الشأن المحلي عموما وخاصة في المناطق ذات الخصوصية العرقية والثقافية التي تحتاج إلى حملات توعوية مكثّفة من قبل البلديات والمجتمع المدني لتعود المنفعة على مثل هذه المناطق، وفق تعبيره. كما دعا المواطنين في قلالة إلى تكوين ما يعرف باللّوبي المدني السّلمي من أجل الدفاع عن منطقته لتفعيل المشاريع المعطّلة بدل التذمّر.
الأجانب المقيمين: قوة إقتراح
تعتبر منطقة الرياض (تبعد قرابة الـ 6 كلم عن مركز الجزيرة) من أكثر المناطق التي يعيش فيها الأجانب المتقاعدين من الديانة المسيحية ، وتشير الأرقام إلى وجود قرابة الـ 3 آلاف مواطن أجنبي مقيم في جزيرة جربة، وينشط هؤلاء في مجالات مدنيّة متعدّدة بالشراكة مع الدائرة البلدية هناك.
من بين هؤلاء، الفرنسة “أوديل”، امرأة ستّينيّة من الديانة المسيحية، قدمت إلى جزيرة جربة منذ سنة 2015. منذ سنتين شاركت “أوديل” في برنامج السوق الإيكولوجية الذي بعثته بلدية الرياض منذ سنوات، كما قامت ببعث جمعية لمقاومة التصنيع في جزيرة جربة، ولقي هذا العمل صدى كبيرا خاصة من خلال نجاحها في تشريك عدد من الجمعيات الأخرى في الجهة ومعهد المناطق القاحلة بمدنين (معهد يهتم بالتجارب العلمية في المجال الفلاحي).
وعن السياسة الاتصالية للبلدية كمقيمة أجنبية بالجزيرة قالت “أوديل”: وجدت صعوبة كبيرة خاصة في العلم بالمستجدّات خلال أزمة كورونا، فأنا لا أفهم العربية ولا أتابع وسائل الإعلام، أرى أن السياسة الاتصالية للبلديات في جربة عموما والإدارات العمومية سيئة، فهي لا تراعي المقيمين من جنسيات مختلفة ولا تتماشى مع خصوصيّة منطقة تمتاز بالتنوّع العرقي والثقافي، ويجب مراجعة هذه السياسات حتى تتماشى مع انتظارات الجميع”.
لا يمنع القانون التونسي المقيمين الأجانب بالبلاد من المشاركة في العمل البلدي أو تقديم المبادرات. في هذا الصدد، يقول محسن بن عايد، رئيس الدائرة البلدية بالرياض: “يوجد عزوف من قبل المواطنين الأجانب في المشاركة في العمل البلدي، لكن وفي المقابل يمثل بعضهم قوة اقتراح وخير دليل على ذلك مقترحات البعض في مستوى السوق الايكولوجية بالرياض التي تم بعثها سنة 2015 والمخصص لبيع المواد الغذائية الايكولوجية دون غيرها”.
ميدون.. بلدية تستفيد من خبرة المقيمين الأجانب
في مدينة ميدون التي تعد ثالث بلدية بالجزيرة ومن أكثر المناطق البلدية التي ينشط فيها الاجانب المقيمين في العمل الجمعياتي . تعتبر “آلكسندار” المواطنة الإيطالية بأن الواقع البلدي بعد الانتخابات قد تغير بشكل كبير. ولآلكسندرا، المقيمة في جربة منذ25 سنة، 3 أبناء من أب تونسي، كانت قد قامت بتشييد دار ضيافة بطابع جربي.
وحول العمل البلدي، قالت المواطنة الإيطالية “أنشط كثيرا في المجتمع المدني وحسب رأيي أن المجالس البلدية المنتخبة غيّرت الكثير من الاشياء نحو الافضل”، وتابعت “في الحقيقة أنا لا اشارك في المجالس البلدية خاصة في فصل الصيف فلديّ الكثير من العمل داخل دار الضيافة، لكن في باقي الأيام – وبحكم نشاطي في المجتمع المدني- أقوم بالمشاركة في التظاهرات وأحضر الاجتماعات خاصة المتعلقة بمجال عملي”.
كما تعتقد “آلكسندار” أن “لمسألة العزوف مسألة عامة وتشمل معظم التونسيين، وأن هناك تجاوبا من قبل البلدية في التواصل مع المواطنين، وتعتبرجزيرة جربة مكانا منفتحا على جميع الجنسيات”.
تعيش في ميدون جنسيات مختلفة، وتحاول بلدية المكان التواصل معهم من خلال القناصل الشرفيين الذين يمثلون الجالية الألمانية والفرنسية مثلا. يقول لسعد الحجام، رئيس بلدية ميدون: “لدينا رغبة في التعامل مع مختلف الجنسيات المقيمة في الجهة خاصة على مستوى إقامة العديد من التظاهرات المشتركة، وهو ما ساهم في انصهار الكثير منهم في المجتمع المحلي”.
بدوره قال فرحات بن تنفوس، القنصل الشرفي للجالية الألمانية بجزيرة جربة: “لا يوجد عدد محدّد للجالية الألمانية في جزيرة جربة باعتبار أنه لا يستوجب على المواطن الألماني عند الخروج من بلده الإعلام حماية لمعطياته الشخصية “. وأضاف: “يتميز المواطن الألماني بصفة عامة بالمشاركة في العمل البلدي والتنظّم في شكل جمعيات، وفي جربة يوجد عدد من الجمعيات التي تهتم بالجالية الألمانية”.
كما اعتبر أن “الكثير من الألمانيين المقيمين في جربة هم من أصحاب الخبرة الكبيرة في مجال العمل البلدي، والعام الماضي اقترحت بلدية ميدون تنظيم يوم عمل مع الجالية الالمانية بالجهة، وهي فكرة مهمة ولكن لم نتمكن من تنفيذها بسبب تأزم الوضع الصحي إثر جائحة كورونا”.
تدعو الأقليات في جزيرة جربة المشرّع التونسي إلى تغيير بعض القوانين لضمان المساواة الكاملة بين جميع التونسيين في كل الحقوق والواجبات، إذ دعت التونسية من الديانة اليهودية “آني قابلة” إلى تغيير الفصل 40 من القانون الانتخابي الذي ينص على أنه “يحق لكل ناخبة أو ناخب تونسي الجنسية منذ الولادة، دينه الإسلام الترشّح لمنصب رئيس الجمهورية”.
وتعتبر آني أن حذف شرط الديانة من هذا الفصل سيكرس المساواة بين كل التونسيين وسيشجع يهود جربة على المشاركة في الحياة السياسية والمدنين ومن بينها العمل البلدي.
وأمام عزوف الأقليات عن المشاركة في العمل البلدي، قال مراد الميساوي، رئيس الدائرة البلدية بحومة السوق: “قررت البلدية خلال قادم الأيام القيام باجتماعات داخل المناطق البلدية في الأحياء التي تقطنها الأقليات”.
ومن جهته، دعا الباحث في التاريخ الأمازيغي، فتحي معمر بلدية المكان إلى تكثيف الحملات التوعوية لتشجيع أمازيغ مدينة قلالة على المشاركة في العمل البلدي.
وتعتبر تجربة بلدية ميدون تجربة متميزة حيث تمت دعوة العديد من الأجانب من ألمانيا إلى المشاركة في الاجتماعات البلدية للاستفادة من خبرتهم الكبيرة في مجال العمل البلدي، ومن المفترض أن يتم تعميم هذه التجربة في بقية مناطق الجزيرة وخاصة في منطقة الرياض حيث يعيش عدد كبير من الأجانب هناك.
انجز هذا العمل في إطار دورة تدريبية لبرنامج مراسلو الديمقراطية المحلية تحت إشراف المنظمة الدولية للنظم الانتخابيةIFES ، حيث يهدف هذا البرنامج إلى المساهمة في تأسيس صحافة محلية ناجعة عبر شبكة من المراسلين والمراسلات المحليين.